الشجاعة هي القدرة على مواجهة القلق الذي ينشأ عندما يتوخى المرء تحقيق حريته وإرادته. إنها الرغبة والارادة للتخلص من الاتكالية والانطلاق باتجاه مستويات جديدة من الاعتماد على النفس والتكامل. الشجاعة سمة ملازمة للمرء يحتاجها في كل خطوة يقدم فيها على اتخاذ قرار له أثره الكبير في حياته، ابتداء من رغبته في قطع اتكاليته على أبويه وانتهاء بقرار الزواج المناسب واختيار المهنة الملائمة. فالشجاعة يتطلبها الانسان في كل فترة من فترات حياته. إنها، كما أحسن وصفها طبيب الأعصاب، الدكتور كيرت غولدشتاين: (ان هي إلا إجابة مؤكدة على الصدمات الحادثة في الوجود، وإنها ـ الشجاعة ـ يجب أن تتولد لتحقق طبيعة المرء) وذاته.
الشجاعة حسب مفاهيم هذا العصر لا تعني أنها عكس الجبن والخور. فحين تقول ان شخصاً ما جبان فإنك لا تزيد بقولك هذا، على أنه كسلان، أو مترهل، أو انه لا أبالي. وفي كل الأحوال، لا تكون قد رميت بوصفك هذا إلى أنه انسان تنقصه الشجاعة، إنما هي أوصاف لها مدلولاتها حسب أمزجة مستعمليها.
ان ما نتطلع إليه في أيامنا هذه هو الفهم العميق لمفاهيم الصداقة بمعناه الحميم، والشجاعة بمرماها الصميم. إننا نتوق إلى هذه المفاهيم بمعناها الدافئ، بمعناها الشخصي الذاتي النظيف الأصيل، البنّاء بمدلولها السقراطي والسبينوزي. إننا خليقون بأن نحيي مفهوم الشجاعة بمعناها الايجابي، بمعناها الذي يدل على حقيقة النماء الداخلي بمعناه الذاتي: الشجاعة بوصفها طريقة بناء لذلك الجانب من وجود الفرد الذي يكون دالاً على قوة الثقة بالنفس والجود بها في مواطن النبل. الشجاعة في واقع مفهومها إنما هي أساس العلاقة الابداعية.
فمن أقدم العصور الضاربة في القدم، أيام سرق بروميثوس النار وعلم الانسان كيفية استعمالها، وما تلا ذلك من أيام، اتضح أن البشر لكي يبدعوا يتعين عليهم أن يستجمعوا عناصر الشجاعة في أنفسهم أولاً. فبلزاك الذي أدرك أبعاد هذه الحقيقة من خلال تداعياته ومن خلال خبرته، نجده قد وصف الشجاعة بصورة شافية وبوضوح، حيث قال وليس لنا إلا أن ندع كلماته تتحدث عن نفسها: (ان السجية التي تستحق أسمى صور التمجيد في الفن ـ وفي جميع ضروب الإبداعات الفكرية ـ هي الشجاعة؛ الشجاعة التي لم تحط جميع العقول المشتركة بمفهومها ولم تستطع الإحاطة بها وبمغزاها.. إنها الشجاعة الرامية إلى التخطيط، والحلم، وتصوير الأعمال الرفيعة وتصورها، إنها شيء يبعث على الغبطة والنشوة والانتشاء بكل تأكيد. لكنها إلى جانب ذلك كله، إنها القدرة على الانتاج والعطاء، والولادة، وحمل الطفل على أن يعمل بمفرده بعد إنجابه، والعناية به والحدب عليه، وحمله في الصباح بين الذراعين بكل ما في الأمومة من حنان متدفق، وإلباسه مئات البدلات الجميلة التي طالما يمزقها مراراً.
(إنها الشجاعة الدافعة إلى عدم التراجع والتقهقر أمام اضطرابات الحياة المجنونة هذه؛ بل هي تجعل مما في الحياة تحفة ماثلة للعيان تكاد تنطق أمام كل عين تراها، فتجعل منها تحفاً في النحت، ومأثورات في الأدب، وصوراً في الرسم، بل تجعل منها قطعة في الموسيقى تنساب إلى النفوس فتشيع البهجة في ثنايا القلوب، تلك هي مهمة التنفيذ والتطبيق المرتجاة من الشجاعة. وفي ضوئها يتعين على اليد أن تكون مهيأة في كل لحظة لتمتثل لتوجيه العقل. وان لحظات العقل الابداعية لا تنصاع إلى ترتيب بعينه. وان الفنان، ما لم يلقِ بنفسه في أتون عمله، كما يفعل الجندي مندفعاً غير هياب في سبيل النجدة، وان الفنان، وهو في تلك المواقف، ما لم يحتفر ويعزق كما هو عامل المنجم وقد تكومت فوقه كتل من الحجر.. فما لم يطرأ كل ذلك للفنان، فإن عمله الفني لن يكتب له أن يكتمل؛ وان عمله سيتلاشى عند حدود مشغله studio حيث يصبح الانتاج بعد ذلك مستحيلاً، وعند ذاك يطفق الفنان يرقب انتحار عبقريته.. وانه لذلك السبب بعينه، ولتلك المكافأة ذاتها، ولذلك الانتصار نفسه، وانه لذات أكاليل الغار هذه، وانه بسبب تلك الأمجاد كلها، تنسب إلى الشعراء الفحول هذه الفضائل كلها مثلما هي تنسب إلى القادة العظام).
ونحن الآن نعرف من خلال دراسات التحليل النفسي، مما لم يكن يعرفه بلزاك، ان أحد الأسباب التي تجعل النشاط الابداعي يستوفي مقداراً كبيراً من الشجاعة هو لكي تستحدث مواقف يصبح المرء فيها متحرراً من ربقة الانشداد إلى الماضي الطفولي ومحترماً القديم لكي يتاح للجديد أن يولد. إذ ان ما يحققه المرء من أعمال منظورة، كما في الفن والأعمال الحرة وما إليها، أو تحقيق المرء ما يبني ذاته ـ بمعنى تطوير الانسان قابلياته ليكون أكثر إحساساً بالمسؤولية ـ إنما هما جانبان للعملية نفسها. وكل إبداع أصيل يعني تحقيق مستوى أرفع في وعي الذات وادراكها؛ وان ذلك، كما رأينا في قصص آدم وبروميثيوس، يمكن أن ينطوي على قدر كبير من الصراع الداخلي.
كان هناك رسام مولع برسم المناظر الطبيعية، وكانت مشكلته تتمثل في اجتهاده للتخلص من ربقة أم متسلطة، وكان لسنين عديدة يسعى إلى أن يرسم مناظر لكنه لم يجرؤ. وقد تمكن في النهاية من استجماع قواه واستحضار عناصر شجاعته ولازم مرسمه، وقد تمكن من رسم عدة رسوم في غضون ثلاثة أيام. وتبين أنها كانت رسوماً ممتازة. ولكنه، ويا للغرابة، لم يكن يشعر فقط بغبطة كبيرة وحدها، بل انه إلى جانب ذلك كان يحس بقلق كثير أيضاً. ففي الليلة الثالثة من بدئه الرسم رأى حلماً وفيه تخبره والدته انه عليه أن ينتحر، وانه راح يستدعي أصدقاءه ليودعهم، وهو في حالة من الذعر والإحساس الغامر من الوحدة والوحشة. فما تفسير ذلك؟ ان الحلم في الواقع كان يقول له: (إذا كنت ستبدع، فإن عليك أن تودع المعتاد المألوف، وإنك ستكون مستوحداً وتموت؛ فالأفضل لك أن تبقى مع المألوف وتستبقيه، وأن لا تبدع). انه لمن الأهمية بمكان، حين نرى طبيعة هذا التهديد اللاشعوري الفعال، انه لم يتمكن من رسم صور أخرى إلا بعد مرور شهر أي بعد أن تمكن من التغلب على هجمة القلق المعاكسة له تلك، والتي تبدت له في الحلم المذكور.
انه لمن الطبيعي والمناسب أن يشجع الطفل وأن يتم توجيهه ليتخذ لنفسه بنفسه كل خطوة ممكنة تمكنه من التفرد بشخصيته المميزة له، لكي يكون هو ذاته متميزاً. لهذا الضرب من توجيه الطفل كل الأثر على مستقبل تحديد ملامح ذاته وتعزيز حقيقة ثقته بنفسه، بشرط أن يتم ذلك من غير تعريضه إلى قلق يخيفه ويرهقه وهو لما يعرف بعد تبريراً لأسبابه. إذا توفر له مثل هذا الجو، فبوسعه أن يتسلق ذرى الارتقاء التدريجي رغم ما قد يواجهه من الاحباطات، فيتمكن من أن يحقق ذاته وينال شيئاً من استقلاله الذاتي، بالاعتماد على نفسه وعلى جهده الخاص به. وكلما تفرد الطفل ولقي التشجيع في هذا السبيل من لدن أبويه أحرز هويته الذاتية وحقق قوة أناه في المجتمع. هذه حقيقة ملموسة خليق بالآباء ادراك أهميتها بالنسبة لنشأة الأبناء.
إن كلاً من الحماية المفرطة للطفل أو التعسف والعنت في إذلاله، تتولد عنهما نتائج عكسية تتبدى تدريجياً في تصرفات الفرد، وترافقه كلما تقدم في مدارج النمو. فلا اللامبالاة والتهور ولا الحماية المغالى فيها يمكن أن يؤديا إلى نمو الطفل نمواً قويماً. ان التشجيع والتقدير السليم لما هو عليه الطفل من قدرات، يؤول إلى أفضل النتائج المرتجاة.
بطبيعة الحال، فنادراً ما يلزم الآباء أبناءهم باتخاذ أدوار مغايرة لأدوار الجنس الذين ولدوا بالفطرة عليه. بل إنهم كثيراً ما تكون متطلباتهم من أبنائهم تحقيق المواءمات الاجتماعية الملائمة. فالآباء يتطلبون من أبنائهم إحراز الدرجات المدرسية المرتضاة، وأن يكون طبيعياً في تصرفاته، وأن يندمج في الوسط الاجتماعي بما يبعده عن مواطن الشبهات. ولكي يعيش الأبناء وفق أماني الآباء إنما يمثل السبيل الوحيد الذي يتيح للأبناء الظفر باطراء الآباء، وأن يبقوا دائماً هم (حدقات العيون). فالتشجيع على مواجهة الحياة برصانة إنما هو جوهر الشجاعة، وللشجاعة آفات تعترض سبيلها وتفسد مزاياها، ومن تلك الأوباء: التهور، والغرور، والنرجسية.
الشجاعة تنشأ وتنمو من إحساس المرء بكرامته وحسن تقديره لذاته. ولكن الغرور والنرجسية، حين تتسلطان على الفرد، يصرفانه عن أهداف الشجاعة: أهدافها السامية، وكل من الغرور والنرجسية يجعلان الفرد يحس الضعة في قرارة نفسه. الشجاعة والحكمة صنوان لا يفترقان، وهما وجهان لمسكوكة ثمينة واحدة.
ان الفكر والتمييز النظر في حقائق الأمر لهي من المكاسب التي يتمكن منها المرء بالمران والممارسة والاعتياد عليها. فهي نتائج طيبة لتربية وتنشئة طيبة. واكتساب محامد الأخلاق إنما يتأتى من حسن التأديب الحصيف، فيكسب الذات فضائلها.